رسالة إلى ولدي
بقلم: الدكتور حسين علي يتيم
يا وَلَدِي…
يا أَغْلَى ما في الدُّنْيا….
لَقدْ شاخَ أَبوكَ، وما شاخَت مَحَبّتهُ….
أيَّامُهُ معكَ في تناقـصٍ، وسَعادَتُه بكَ تتَزايـدُ كلَّ يومٍ.
.. وها إنَّ أباكَ وقـــــد مالــــت شمسُــهُ الى الغروب، يَغمِسُ قلمَه في مِدادِ قلبِه… وماءِ عيونِه… ليَكتُبَ اليك وصيَّةً نافعة في حياتك، ترثُها أنت، وتورثُها لأولادِكَ من بعدِك! وكُنْ على يقين يا بني، أنني لا أبغي استدرار عاطفة، ولا استجداء وفاء، بل أردتُ أن تكون كلماتي في وصيتي حروفاً منقوشة في ذاكرة من وهبتهُ حلمي وعمري.
يا بُنَيَّ:
..يأتِي بعضُ كلامِ الآباءِ ثقيلًا أحيانا علَى مَسامِعِ الأبناءِ، ولَعلَّه الفارقُ في اختلافِ الأعمار والأزمان، والأجيالِ والأحوالِ. غَيْرَ أنَّ كلامَ الآباءِ لا ينصاع لِعَنَتِ الأبناء وتبرُّمهم، إذْ سُرعانَ ما تَتكسَّرُ هذه العثرات إِزاءَ غريزةِ الأُبوَّةِ الكامنةِ في خلايا الوالدينِ. وليسَ أَدلَّ علَى ذلكَ منْ سُلوكِ الحيَوانِ نفْسِه في حِرصِه علَى حياةِ أبنائِه، فقررت في وصيتي إليكَ، أنْ أُثْقِلَ علَيْكَ، بِتدوينِ كَلماتٍ لعلها الأَخيرةِ بين الوصايا الأبوية!… فاقْرأْها جيداً يا أحب الناس إليّْ، قبل أن تصبحَ أباً يكتب بدوره وصاياه!..
يا بُنَيَّ:
.. إن كَثُرَ كلامِي، فاعْذُرْ أمرِي وعَصري، واحْمِلْني علَى الأحسَن؛ فأَنا في أي حالٍ والدُكَ، وأَنتَ ولِيدِي، وأَنتَ حامِلُ جِيناتِي، وبُذورَ تَربيَتي. وتَذَكَّرْ، يا بُنَيَّ ولا تنسَ، كَمْ كُنْتَ أَنتَ تُكْثِرُ الكَلامَ صَغيرًا، وأَنتَ تَسألُني عَنْ كُلِّ صغيرةٍ وكبيرةً. وكَمْ كُنتُ أنا أُكْثِرُ الكلامَ لأُجيبَكَ بِما يُشْبِعُ شَغَفَكَ، بِمعرِفةِ كُلِّ صغيرةٍ وكبيرةٍ! فَلَكَمْ حَدَّثْتُكَ عنْ رِواياتِ “عَلِي بابا”، لِتَضحكْ! وقَصَصْتُ عليكَ قِصَصَ “السِّنْدِبادِ” لِتَسْعَدْ! وحَدَوْتُ لَكَ حَداءَ الجَدَّةِ لِتَنامْ! وهدهدتُكَ لتسرح في الأحلام، ورَوَيْتُ لَكَ حياةَ جَدِّكَ، فَلَّاحًا مُكافِحًا مُنافِحًا، ثم عامِلاً مُجـِدًّا مُكِدًّا، يُصَلِّي لِلأرضِ، بَيْنَ كُلِّ صَلاةٍ وصلاةٍ …!
يا بُنَيَّ:
.. ويأْتِي يومٌ تَرتَجِفُ فيهِ يدايَ المُجعَّدَتانِ، بَعدَ شبابٍ أَنجَبَكَ وأَنْشَأَكْ، وكِفاحٍ أَطعَمَكَ وكَساكْ، وحَنانٍ كَنَفَكَ ورَعـاكَ.
فامْسُــــكْ يا ولدي، يَدَيَّ الضَّعِيفَتَيْنِ بِراحَتَيْكَ القَوِيَّتَيْنِ، لِتَرتاحَ يَدايَ بَيْنَ راحَتَيْكَ؛ فمِنْهُما شَبِعْتَ، ومِنْهُما ارْتَوَيْتَ، ومِنْهُما اكْتَفَيْتَ، ومِنْهُما تَبارَكْتَ وارتقيتَ!..
يابُنَيَّ:
.. وقدْ يَقعُ الطَّعـــــــامُ علَى صــدْرٍ ضَمَّـــكَ وحَمَلَكَ؛ فنَظِّفْ، يا وَلَدِي صدرَ أبيكَ بيديك، ولا تَتَقَزَّزْ ولا تتبرَّم ولا تتأفف، فلَطالَما نَظَّفْتُ صدرَكَ ويَدَيْكَ ورِجْلَيْكَ، وكُنْتُ سَعِيدًا بِما أَفْعَلُ، فأنْتَ مَلَكْتَ عَلَيَّ الحياةَ، وكُنْتَ أغْلاها، وكُنْتَ أَحْلاها…
.. إنَّها دَوْرَةُ الحياةِ، يا ولَدِي، وسِرُّ الوُجودِ، وحكمةُ المعبود. وهِيَ أمانَةُ الخالق في خَلْقِهِ، وها قدْ وَصَلَتْ إِلَيْكَ، فاحْرُسْها بِإِحْسانٍ، فَفِيها خَيْرُ زادٍ لِرُوحِكَ، ونِعْمَ مِيراثٍ لأولادِكَ من بعدك!..
.. وذاتَ يَوْمٍ، قالَ لُقْمانُ الحَكِيمُ لِمَلِكِ الفُرْسِ كِسْرَى، وهُوَ يَغْرِسُ زَيْتُونَةً: “غَرَسُوا فَأَكَلْنا، ونَغْرِسُ فيَأْكُلُونَ” إن الحياة استمرارٌ ياولَدِي، هَكَذا كانَ أَبِي، وهَكَذا أَكُونُ، وهَكَذا تَكُونُ، وتلكم حكاية الأسلاف والأخلاف!..
يا بُنَيَّ:
.. أَعْرِفُ أنَّكَ مِنْ زَمَنٍ غَيْرِ زَمَنِي، وجِيلٍ لَيْسَ جِيلي؛ فلا تَعِبْ عَلَيَّ عَجَزِي عما وفرتُهُ لكَ من كنوز العلم والمعرفة، وتقنيات العصر الذي لم أدركه، وأنا اليوم قاصرٌ عنه. فَلَكَمْ جَهَدَ أَبُوكَ واجْتَهَدَ، لِيَفْتَحَ لَكَ خَزائِنَ هَذِهِ العُلُومِ، لِتَرْتَقِيَ بها، وتستوي على عرش معارفها! ولَئِنْ أنتَ غَرَفْتَ اليوم مِنْ خَزائِنِ الحَداثَةِ، ما لَمْ يَكُنْ لِجِيلِي فيهِ نَصِيبٌ، فقَدْ واكَبْتَ الزَّمَنَ، وقَطَفْتَ مِنْ ثَمَراتِه ما يَنْفَعُ النَّاسَ؛ وذَلِكَ، واللهِ، هُوَ كبيرُ حُلُمِي، وعظيمُ مقصدي، ومُنْتَهَى سَعادَتِي. واعْلَمْ، يا بُنَيَّ، أَنَّنِي حَصَّلْتُ مِنْ مَعارِفِ عَصْرِي، مَا يُوازِي العَناءَ في اقْتِلاعِ الصَّخْرِ بِالأَظافِرِ! واذا كان ذلك قد أتى عسيرا عليَّ، فإنه اليوم يسيرٌ عليك، فاقتنص فرصتَه، وأقطف ثمرتَه، واعلم ان الذين يعلَمون والذين لا يعلَمونْ لا يستوون في الحياة.
يا بُنَيَّ:
.. إِن خانَني الجَنانُ، أَوْ تَلَعْثَمَ مِنِّي اللِّسانُ، أَوْ زلَّت بِيَ القَدَمُ، أو اصطكَّت ركبتاي، أو خارت قواي، فلا تَخْجَلْ ولا تتململ، ولا تُحَمِّلْنِي ما لا يَجُوزُ أَنْ يُحْسَبَ عَلَيَّ. واعْلَمْ، يا وَلَدِي، أَنَّ الشَّيْخُوخَةَ أَقْبَلَتْ، وأَنَّ الشَّبابَ أَدْبَرَ، وأَنَّ السِّنِينَ تَرَكَتْ نُدُوبَها عَلَى النَّفْسِ والجَسَدِ، فاعْذُرْ عُمُرِي، وسامِحْ أَمْرِي، وأَبْرِئْ ذِمَّتِي مِنَ الخَطَأ. وأَظُنُّكَ تَعْلَمُ عِلْمَ اليَقِينِ، أَنَّ الإِنسانَ يَشِيخُ كَما تَشِيخُ كُلُّ الأَحْياءِ؛ عَلَى أَنَّ قِيمَةَ الإِنسانِ لا تُظَهَّرُ إِلاَّ بَعْدَ رحيله! ويومذاك يُحَدِّدُها إِرْثُهُ وأَثَرُهُ، وغرسُه وثمرُه، وما قَدَّمَتْ يَداهُ وما أخّرَتْ!..
يا بُنَيَّ:
.. وإِذا مسني الضُّرُّ، أو هاجَمَنِي المَرَضُ، فامْسُسْ بِيَدِكَ الحنونةِ مَكامِنَ الأَلَمِ كَيْ أَنْساهُ؛ وإِنْ ضَعُفَتْ ساقايَ عَنِ السَّعْيِ إِلَيْكَ، فَخُذْنِي بِساعِدَيْكَ، وضُمَّنِي بِجَناحَيْكَ؛ فَلَطالَما اتَّخَذْتَ أنْتَ مِنْ ساعديَّ عَصًا تَتَوَكَّأُ عَلَيْها، ومِنْ رُكْبَتَيَّ رُكْنًا تَرْتاحُ إِلَيْهِ، ومن ساقيَّ جسراً تعبُرَ عليه، وَمِنْ كَتِفَيَّ عرشاً تستوي عليه، وَمِنْ منكَبَيَّ ما أَخَذَ بِكَ إِلَى مَعارِجِ النُّورِ والحَياةِ.
.. وَإِذا أَصابَنِـــي صَمَـمٌ، فَكُنِ الصَّـــدَى إِلَى أُذُنَيَّ، وإِنِ انْطَفَأَ نَظَرِي، فَكُنْ خَيْطَ نُورٍ إِلَى عَيْنَيَّ، وَإِذا نَحُلَ جِسْمِي، فَلا تَقْطَعْ، بِاللهِ، حَبْلَ السُّرَّةِ بَيْنَ قَلْبِي وبَيْنَـكَ. فَمِنْ هُناكَ أَتَمَسَّكُ بِحَبْلِ الله وحبْلِك، وَمِنْ هُناكَ أَسْتَوْلِد بَهْجَةَ حَياةٍ باقِيَةٍ.
وَأَرْجُوكَ أَنْ لا تَجْعَلَ “دارَ العَجَزَةِ” مَأْوايَ، فَإِنِّي بِقُرْبِكَ أَكْثَرُ سَعادَةً، وَلَوْ في قَبْـــوٍ حَقِيـــرٍ، أو كــوخٍ فقيــر، أَوْ في قَبْـــرٍ صَغِيـــرٍ…
يا بُنَيَّ:
لَقَدْ أَنْشَأْتُكَ عَلَى الرِّفْقِ والصِّدْقِ، والمَحَبَّةِ والوَفــــاءِ، والفَضِيلَـــةِ والكَرامَـــةِ، والعِلْـــمِ والإِيمانِ. وَما أَرْجُوهُ أَنْ أَخْتِمَ رِحْلَتِي مَعَكَ مَغْمُورًا بسعادةِ ما زرعْتُ؛ وأَنْ يَكُونَ لِأَبْنائِكَ مَعَكَ خَيْرُ إِرْثٍ مِمَّا كَنَزْتَ. وَتَذَكَّرْ دائِمًا الحَدِيثَ الشَّرِيفَ: “إِذا ماتَ ابْنُ آدَمَ، انْقَطَعَ ذِكْرُهُ إِلَّا مِنْ ثَلاثٍ: صَدَقَةٍ جارِيَةٍ، وَعِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، وَوَلَدٍ صالِحٍ يَدْعُو لَهُ”.
يا بُنَيَّ:
.. ولَقَـــدْ جَهَدْتُ لِأَكُــونَ راعِيًا صالِحًــا في أُسْرَتِي، وآمُلُ أَنِّي وُفِّقت لما صبوت إليهِ. والأبوَّة ياولدي ليست خياراً، ولا عقداً، فَهِيَ حُبٌّ دونه أمنَعَ السدود، وَهِيَ عَطاءٌ بِدُونِ حُدُودٍ؛ ذَلِكَ أَنَّها النعمَةُ التي أعطَتْ للإنسان قيمَتَه في الدفءِ والحُبِ والحَنانْ. فَلْتَكُنْ أُبُوَّتُكَ حُبًّا وَعَطاءً. وتَذَكَّرْ، يا بُنَيَّ، الوَصِيَّةَ الخامِسَةَ مِنَ الوَصايا العَشْرِ، الَّتِي أُنْزِلَتْ عَلَى النَّبِيِّ مُوسَى (ع)، وصَدَّقَها السَّيِّدُ المَسِيحُ (ع)، وعَمِلَ بِها نَبِيُّ المُسْلِمِينَ مُحَمَّد(ص)، وهِيَ: “أَكْرِمْ أَباكَ وأُمَّكَ”.
ثُمَّ تَذَكَّرْ دائِمًا الآيَةَ الكَرِيمَةَ: “وبِالوالِدَيْنِ إِحْسانًا، إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما، فَلا تَقُلْ لَهُما: أُفٍّ، وَلا تَنْهَرْهُما، وقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيمًا. وَاخْفِضْ لَهُما جَنـاحَ الــذُّلِّ مِـــنَ الرَّحْمَــةِ، وقُـــلْ: رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيرًا”. (الإِسْراء/23 ـ 24)
يا بُنَيَّ:
لَقَدْ كُنْتُ بارًّا بِأُمِّي وأَبِي،رَحِيمًا بِالأَقْرَبِينَ، صَدِيقًا لِلضُّعَفاءِ. فَكُنْ أَنْتَ وإِخْوَتُكَ وذُرِّيَّتُكَ، بَرَرَةً بِالآباءِ، رُحَماءَ بِالضُّعَفاءِ، حَتَّى تَنالُوا مِنَ الأَبْناءِ بِرَّهُمْ، ومِنَ النَّاسِ ثَناءَهُمْ، ومِنَ اللهِ رَحْمَتَهُ.وكُلُّ أَمَلِي،أَنْ أُغْلِقَ عَيْنَيَّ، تارِكًا لَكُمْ ذِكْرَى طَيِّبَةً، لِأَبٍ صالِحٍ.
وَلَكُمُ الدُّعاءُ… والِدُكَ