الدكتور سام راكوبيان
رئيس تحرير مجلة “TDAK” الأرمنية، له مقالات عديدة كتبت باللغتين الأرمنية والعربية، همه الأوحد مساعدة الأخرين، فعرف ب “أبو الفقراء”، نال شهادة الثانوية العامة من المدرسة الإنجيلية الأرمنية “الحياة” في بيروت، ونال شهادة في العلوم المخبرية من جامعتي هيكازيان والأميركية في بيروت، أسس أول مركز طبي تشخيصي في بيروت عام 1978، ويدير اليوم مركز سان مارك الطبي التشخيصي في بيروت، له ثلاثة مؤلفات هي ” الحب الضائع”، وضيوف العيد “، وبيت الفلاح “.
أبن درويش
بقلم الدكتور سام راكوبيان
كان قد مضى عشرون عاماً على بنائي لآخر بناية، في تلك الفترة كنت زبوناً لمتجر بائع لوازم للبناء، حيث كنت كل يوم تقريباً أمر لأوصي أو لأشتري قبل يوم الأغراض المطلوبة مني المتعلقة بالبناء، بعد إتمام البناية لم أعد في حاجة لا لمواسير طويلة، ولا لمئة كيس من الأسمنت، ولا لمجرفة أو لمعول، هذا الصيف احتجت إلى بعض الأغراض عندما قررت بناء ملعب ومسبح على جانب من حديقة منزلي، تذكرت درويش كرم ومتجره الذي كنت أراه دائما على طريقي، دخلت المتجر، خائفاً ألا يتذكرني درويش كرم، أو أن يقول لي “أوه كم تغيرت يا رجل”. طاولة درويش كرم في هذا المكان نفسه التي كانت فيه، بغبارها والسجلات القديمة والدفاتر المرصوفة فوق بعضها بعضا، تماما كما كنت عليه قبل عشرين عاما، لم يتغير شيء، وأمام الطاولة يقف مع البناء صف من الحرفيين وخلفهم عامل كان يدخل ويخرج عبر ممرات مغبرة مظلمة، يخرج الأغراض المطلوبة التي كان الزبون يرغب في الحصول عليها، غير أن الجالس خلف الطاولة كم يكن درويش كرم بل رجل يشبهه، وكأنه أصغر منه سناً، فاحترت ماذا أقول، لأن درويش لم يكن موجوداً هناك، والرجل الجالس خلف الطاولة لم أكن أعرف من هو؟ لم تراني قد انزعجت؟ وأنا لم آت للبحث عن درويش، ولكنني كنت في حاجة إلى بضاعة أشتريها.
طلبت من الرجل الجالس خلف الطاولة قائمة من البضائع، نظر إلى وجهي، وبابتسامة سلم علي قائلاً: “صباح الخير حكيم”. فأجبته:”صباح الخير”. وبسبب ترددي شعر الرجل بأنني لم أعرفه. قال: “أنا ابن درويش”، وتابع ” كيف حالك حكيم”. تعجبت، وبوجه مندهش شاهدته وتذكرت بشكل أصح فتوته، بالأمس كان ما زال فتى يعمل تحت يد والده، بإحضار طلب الزبون من المستودع الداخلي، غير أن ابن درويش بدا لي أنه أكبر كثيراً، البارحة كان فتى واليوم هو رجل ناضج ناهز الأربعين من عمره، بياض شعره، وقلق وجهه التعب كانت تظهره أكبر سناً:
ـ كيفك حكيم، وين هالغيبه؟
ـ الحمدلله، أين والدك؟
ـ آخ، والدي توفي، مرضه ووفاته كأنهما حصلا في طرفة عين.
ـ أنا أسف، لم أعلم بالأمر أبداً.
خرجت من المتجر مذعوراً، منهوك القوى، ضعيفا من جراء هزتين: الأولى كانت رؤيتي لابن درويش في حالة الهرم على ذلك الشكل، الثانية كانت خبر وفاة والده، عندما وصلت إلى البيت أسرعت نحو المرآة لأتفحص نفسي: ولكنني لم أفهم شيئا، توجهت إلى صور ألبومي حيث بحثت فيه عن صوري التي أخذت قبل عشرين عاما، أخذت بعضا منها، وتوجهت ثانية إلى المرآة، تمعنت مرة في صوري القديمة ومرة في المرآة، فرأيت كم تغير شكلي أيضا خلال عشرين عاماً، أنا لم أتابع كبري في السن، وتقدم العمر عند الغير كان يخيفني. خرجت إلى الشرفة بأعصاب منهارة، وأمامي ابتسمت لي ككل صباح شجرة الصنوبرة المرتفعة، سألت الشجرة:
“أنت شجرة باسقة، يقارب عمرك المئتي سنة، أليس كذلك”.
أجابتني الشجرة الباسقة بجذعها الثخين، وقامتها الطويلة ورأسها الأخضر كبير الحجم، لماذا؟.
ـ فقلت لماذا أعطي الله الإنسان حياة قصيرة، اشتكيت إلى الشجرة،” بالكاد يغدو أحدهم شابا ويبدأ بالعمل المثمر حتى يبدأ بالتقدم في السن، ابنه يكبر ويحتل مكانه، وبعد سنوات عديدة عندما يبدأ بجهوده الكبيرة لتثبيت طريقه نحو النجاح يبدأ التعب”.
ـ قالت الشجرة:” زرعنا الله هنا من أجل إرضائكم فقط، نحن هنا من أجل راحتكم، لكي تستفيدوا من ثمارنا، وم ظلالنا، وعندما تبدأون الشعور بالبرد، تقطعوننا من دون شفقة، وتحرقوننا في مدافئكم، لكن أيامكم معدودة، وأي واحد منكم يقوم بذلك الحساب، بينما نحن مرتبطون بضمائركم”. توجهت إلى الداخل ونمت، ثم استيقظت صباحاً وخرجت إلى الشرفة لارتشاف قهوتي.
ـ قالت شجرة الصنوبرة: صباح الخير.
ـ أجبتها: صباح الخير يا جارتي العزيزة.
بقلم الدكتور سام راكوبيان